كما يشير اوّل جزء من العنوان: لقد ازدادت فرص التعمير حالياً، مقارنةً بالأعوام السابقة، وبالتالي، إزداد احتمال طول العمر وعيش الإنسان حتّى سنّ جدّ متقدّمة (100 عام على سبيل المثال). هذا خبر سعيد نوعاً ما، وحتّى مؤخّراً.. الرواية جميلة، بحيث تعد التقدّمات والتطوّرات في مجال الصحّة والعناية الطبّية، بحياة أطول وبصحّة جيّدة..
وإنّما، اليوم تحديداً، تبدّل المشهد: العمر يطول، صحيح! وإنّما، الصحّة تتراجع والأمراض تتزايد وتتفاقم! والأزمة تبدو عالميّة إذ لا تقتصر على بلد او منطقة..
مارد من .. قشّ..!
خلال الفترة الواقعة بين 2004 و2011، قد سجّلت زيادة من سنتين لعمر الذكور والإناث على حدّ سواء. ومن الآن فصاعداً، يبلغ متوسّط طول العمر ما لا يقلّ عن ال 82 عاماً تقريباً. هذه الإحصاءات تشمل الدول المتقدّمة وتحديداً الأوروبيّة منها وهذا المعدّل المسجّل مدعاة فخر واعتزاز إذ نجحت البلدان المذكورة في قيادة شعبها نحو عمر متقدّم.. وإنّما، يطرح السؤال: بأيّة حال؟ هنا، يتخرّب كلّ الوضع.. ففرص العيش طويلاً بصحّة جيّدة، في تراجع سريع ومفاجىء. على سبيل المثال: يقدّر الخبراء فرص التعمير بصحّة جيّدة بحوالى 74% لدى النساء خلال العامين الماضيين، في حين كانت من 77% في العام 2004! بمعنى آخر: لو كانت المولودة الأنثى اليوم لتكسب عامين إضافيين من طول العمر، فبالمقابل قد ازدادت فترة عيشها مع إعاقات، من عامين ونصف.. ما يجعلنا نعيد النظر في "قيمة" اعوام العيش المكتسبة!
لم يعد طول العمر دليل تطوّر..
للمرّة الأولى وبعدما كان طول العمر المؤشّر الوحيد لتقدّم وتطوّر(تطوّرات صحية، طبية وتكنولوجيّة) الشعوب وكان ليصبّ دوماً في مصلحته، تبدّلت الأوضاع بالكامل! كيف لنا بشرح هذه الظاهرة؟؟ الفرضيّة الأولى: هذه الظاهرة هي النتيجة المباشرة لهَرَم الشعوب. وبالتالي، كلّما هرم المرء، تردّد ذلك سلباً على تفاصيل حياته اليوميّة. ولكنّ المعطيات تناقض هذه الفرضيّة! فليس كبار المسنّين من يلقي بثقله على المعادلة المذكورة.. بل على العكس، هي الأجيال اللاحقة اي الأكثر شباباً، من يدفع الثمن! تحديداً، ذروة المواليد التي سجّلت بين سنوات ال 1945 وال 1964، هي من يشكّل اليوم محرّك التراجع الصحيّ (مع انَّ هؤلاء قد اعتبروا الأكثر دلالاً وعنايةً حينها بفضل التطوّرات الاجتماعية والطبية).
على الرغم من كلّ المعطيات، يجب الاعتراف بأنَّ المسألة تبقى موضع لغط وجدل.. فلطالما اعتمد خبراء الديموغرافيا مقياسين لتحديد مَعالِم حياتنا: الولادة والوفاة؛ وبالتالي، هم اقلّ مهارة في تقييم نوعيّة حياة السكّان. كلّ ادوات ومعايير القياس المعتمدة منذ قرون، باءت بالفشل، إزاء تفرّد وعدم موضوعيّة الأشخاص في وصف وضعهم الصحيّ. لذا، يتحدّث الخبراء اليوم عن أداة بسيطة وموثوقة جديدة لتصبح المرجع الشامل: "فرص طول العمر بدون إعاقات"، اي، مجموع السنوات التي يستطيع المرء تجاوزها بدون أن يكون محدوداً او معوّقاً في نشاطاته اليومية (التنقّل، إرتداء الملابس، الاغتذاء،...). وهذا المقياس يحتسب ايضاً الأمراض المحتملة سواء تمّ الإفصاح عنها من قبل الشخص او لا، وتردّداتها على الحياة اليومية. سؤال بسيط: "هل تحدّك او تعيقك مشكلة صحية(منذ 6 اشهر على الأقلّ)، في نشاطاتك المعتادة؟". امّا الأجوبة المقترحة فثلاثة: "نعم، ثمّة مشكلة صحية تعيقني جدّاً"، "نعم وإنّما لا تعيقني كثيراً"، "كلا، لا تعيقني ايّة مشكلة".
بعد إجراء الاستطلاعات وفق الأداة الجديدة، إستخلص الباحثون ما يلي: ثمّة سيناريو لتوسّع الإعاقات والمشاكل الصحيّة بالتزامن مع ازدياد فرص طول العمر. هكذا، الذكر الذي يولد اليوم سيعيش أكثر من 16 سنة مع إعاقات ومشاكل صحية، مقابل 15 سنة للذكر المولود في العام 2004. امّا وضع الأنثى فمدعاة قلق أكثر! بحيث ستطال الإعاقات والمشاكل الصحية اليوم 22 سنة من حياتها، مقابل 15 سنة ونصف في العام 2004. سيناريو التوسّع هذا يوقّع المرحلة الثالثة من ماضينا القريب.
تأثير المحيط الاجتماعيّ
والملفت للنظر هو أنَّ حياة الأشخاص الذين ولدوا بين العام 1945 والعام 1964 (الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية وسجّلت ذروة ولادات في بعض البلدان) هي التي تشهد تراجعاً صحيّاً أكثر فأكثر، مقارنة بسواها. منذ العام 2004، قد اكتسب البالغون الخمسين من العمر، سنة ونصف اضافية من طول العمر وإنّما، بالمقابل، قد تمدّدت فرص تعميرهم بصحّة سيئة، من عامين! فهل نرى هنا نهاية العقد الماضي الموقّع مع التطوّر؟ هذا التطوّر الطبي والاجتماعي الذي يفترض ان يرافق المرء لوقت اطول في فرص تعميره؟
امام هذه المعطيات المتناقضة، قرّرت نخبة من الباحثين الغوص في المسألة أكثر، وإذا بها تكتشف التالي: فرص العيش طويلاً وبصحّة جيّدة تتراجع وتتقلّص كلّما انحدرنا نزولاً في السلّم الاجتماعيّ (إختلاف الطبقات الاجتماعية). على ال 15 عاماً المفترض عيشها بين سنّ ال 50 سنة وسنّ ال65 سنة، للرجل المتمتّع بمركز اجتماعي او مهني مرموق، كلّ الفرص في تمضية 12 سنة منها بدون إعاقات او مشاكل صحية هامّة، مقابل 9 سنوات فقط للرجل العاديّ العامل. امّا نتائج فئة "غير النشطين او غير العاملين" فمضلِّلة، لأنّها تدمج ما بين العاجزين عن العمل لأسباب صحية وبين العاطلين عن العمل. فالوضع الصحي لهذه الفئة يقلق الباحثين والذين ينوون تدعيم المراقبة حولها.
ترى ما هي الآفة الحقيقية التي "تلتهم" شيئاً فشيئاً حياة الذين ولدوا ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ ما زالت التحاليل ناقصة في المجال، وتحديداً حول طبيعة الأمراض و/او المشاكل الصحية التي تسرّع الإعاقات.. مؤخّراً، اشارت الأرقام الى زيادة ملحوظة (حوالى 11%) في نسبة الحوادث الوعائية الدماغية ما دون سنّ ال 65 عاماً، بالتزامن مع تراجع(6.6%) في النسبة عينها، ما فوق سنّ ال65 عاماً. في ايّ حال، يتحدّث الباحثون عن لائحة من 4 امراض تهدّد صحّة كبار المعمّرين اليوم:
0 لدى الرجال والنساء على حدّ سواء، الاضطرابات العضليّة العظميّة (داء المفاصل،...) تأتي على رأس قائمة الأمراض التي تقود الى إعاقات.
0 الأمراض القلبية الوعائية (إرتفاع الضغط، قصور قلبيّ، حادث وعائي دماغي..).
0 في المرتبة الثالثة، تظهر الفروقات بين الجنسين: يعاني الرجل اكثر من اضطرابات تنفّسية (ربو، قصور تنفّسي، إنسداد رئوي مزمن،..)، مقارنةً بالمرأة والتي تقع اكثر ضحية الاكتئاب والقلق الشديد.
0 حالات الأمراض العصبية التنكّسية (داء الآلزايمر،..) ايضاً في تزايد.
مع العلم بأنَّ اللائحة ما زالت طويلة وتنتظر المزيد من الأبحاث. جلّ ما يمكننا قوله اليوم هو أنَّ الشريحة العمرية المتراوحة بين ال 46 وال 64 تعاني من مشاكل صحية، أكثر منها الأجيال السابقة او اللاحقة لها.
عامل التقدّم في السنّ لم يعد المسبّب الوحيد للأمراض الشيخوخية..
من الآن فصاعداً، لا حاجة لأن يطعن المرء في السنّ حتى يعاني من أمراض لطالما ربطت الى عامل الشيخوخة او التقدّم في السنّ! ولكن، لمَ الجيل الذي ذكرناه سابقاً (جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية) يقع اليوم ضحيّة المشاكل الصحية والإعاقات؟ لشرح ذلك، قد نفكّر بعدّة فرضيّات: اولاً، فرضيّة "التأثير التشخيصيّ" والتطوّرات الطبية التي أفاد هذا الجيل منها، بحيث طوّر معرفة أفضل حول صحّته. بيد انّه وإذ وضعت في تصرّفه جميع وسائل العناية والتشخيص، يعي أكثر منه سواه مرضه او مشكلته الصحية، وبالتالي، يميل الى الحدّ من بعض نشاطاته المعهودة. لكنّ الفرضية هذه غير كافية لوحدها في شرح هذه الظاهرة. الفرضية الثانية مربوطة مباشرة الى التطوّر الطبي: إزدياد الإعاقات قد يتبرّر جزئياً بتأثير محاذي لتحسّن وسائل وحركات العناية الصحية؛ إذ يتمّ اليوم احتسابها بجدّية، لم تعد بعض الأمراض المميتة سابقاً (قصور قلبيّ،...) لتمنع المرء من الاستمرار.. وأحياناً تحت طائلة المعاناة من إعاقات في الحياة اليومية. وإنّما، كلتا الفرضيّتين غير كافيتين، بل ثمّة مسبّب آخر! على الأرجح، التعديلات العميقة التي طالت سلوكيّاتنا خلال العقود الأخيرة. بمعنى آخر: جيل ما بعد الحرب العالمية قد "دشّن" نمط عيش لا يخلو من المجازفة عامّةً. وخير دليل على ذلك: عوامل الخطر التي باتت شبه ملازمة لحياته اليومية، من تدخين، قلّة شرب المياه وكثرة استهلاك المشروبات المنبّهة، تغذية سيئة، نقص في النشاط البدنيّ،... وهنا، نذكر بأنَّ عامل التدخين هو الأكثر إخافةً وترويعاً من حيث أرقامه وارتداداته، يليه مباشرة عامل البدانة وقلّة الحركة..
"هل أنت بصحّة جيّدة"؟
إجمالاً، هو السؤال الأوضح والأوجز للاستفسار عن فرص تعمير شعب ما مع التمتّع بصحّة جيّدة. بيد أنَّ الاختبارات تثبت العكس، فليس كلّ من يزعم بأنّه يتمتّع بصحّة جيّدة، يتمتّع حقاً بها في الواقع. هكذا، في بلد اوروبيّ معيّن، وفي حين يطول العمر مع صحّة سيئة والمزيد من الإعاقات، فالسكّان يقولون - وهذا مستغرب - بأنّهم يعيشون على ما يرام صحيّاً لمدّة اطول. وفي اوروبا عامّة، قد ازدادت الصحّة الجيّدة "المزعومة" بين الأعوام 2005 و2011، وهذا على الرغم من ازدياد سنوات الحياة المرفقة بالأمراض! والأكثر غرابة؟ الشعب الأميركيّ الذي خسر 5 سنوات من معدّل تعميره، مقارنة بالشعب اليابانيّ، وخسر 3 سنوات مقارنة بمعظم سكّان اوروبا الغربية، في حين يزعم بأنّه يتمتّع بصحّة ممتازة.. بالمقابل، الشعب الياباني والمعروف بتعميره وطول عيشه، يأتي في المرتبة 32 من حيث تقييمه الشخصيّ لصحّته. ما يجعلنا نقول بأنَّ تفاؤل الأميركيين (من حيث تقييم وضعهم الصحيّ) يتردّد سلباً على فرص تعميرهم، وامّا تشاؤم اليابانيين في المجال ذاته فيتردّد إيجاباً!
ضرورة تأمين وقاية استهدافيّة (Targeted prevention)
كيف لنا بإعاقة هذا التدهور السريع؟ هذا التدهور والناجم كما يبدو عن الاضطرابات الكبرى في نمط عيشنا (قلّة حركة ورفاهية مفرطة، خلل متزايد في التغذية، إستفحال البدانة، إدمان التبغ والذي يطال الأكثر والأسرع شريحة النساء،...)؟ عبر الوقاية كما يبدو وفقط عبرها. وإنّما، وقاية استهدافيّة او موجَّهة بدقّة، فأيّ نوع آخر من الوقاية العامّة و/او التواصل العشوائي، لن يفعل سوى تعديل السلوكيّات لدى الطبقات الثريّة والميسورة من الشعب، متناسياً الطبقات الأكثر عوزاً: "تغذية متوازنة"، "نشاط رياضيّ منتظم"، "5 حبّات من الخضار والفاكهة يومياً".. كلّها رسائل بسيطة وإنّما تأثيراتها"خبيثة"..
لحسن الحظّ، تتطوّر الأمور منذ عامين، إذ سنخبر عمّا قريب وسائل استهدافية دقيقة وموثوقة. هي تشبه العلاجات الاستهدافيّة بمبادئها، وبالتالي، ستبدأ الوقاية اليوم بالاستناد الى الأدلّة الملموسة. هكذا، ثمّة برنامج مضادّ لظاهرة التدخين، ومرتكزعلى قادة الرأي العام لدى جماعات الشباب واليافعين، قيد الدراسة اليوم. يؤكّد الخبراء بأنَّ الوقاية الموجّهة بشكل صحيح قادرة على قلب المقاييس بسرعة، اي في غضون 2 او 3 سنوات.
ويبقى السؤال..
وإنّما، في النهاية، يبقى السؤال: هل هذا كافٍ؟ فظاهرة التعمير الطويل المرفق بصحّة سيئة تتعمّم شيئاً فشيئاً على كلّ كوكب الأرض، وتلك مدعاة قلق.. فهل سيظلّ تطوّر الطبّ قادراً على زيادة فرص طول العمر؟ صحيح انّه سجّل حتى الآن في رصيده 3 ثورات كبرى سنحت لفرص التعمير بالازدياد: التلقيحات المضادّة، العلاجات المضادّة للأمراض القلبية الوعائية، ومتابعة المسنّين.. ولكن، بالمقابل، وللأسف، الحاجات الصحية في تبدّل وتقلّب مستمرّ كما وحسب منظّمة الصحة العالمية، نشهد ظهور أمراض ومشاكل جديدة (أمراض غير خمجيّة، سرطانات، حوادث سير،.. تحلّ تدريجياً مكان الأعداء التقليديين من أمراض خمجيّة مُعدية وسوء تغذية..، كأسباب رئيسية للإعاقات وحالات الوفاة المبكرة. وبالتالي، سنجد المزيد من الأشخاص الذين يعانون ولفترات طويلة أكثر فأكثر، من مجموعة واسعة من الأمراض المعيقة. والأسوأ؟ لم يتوصّل الطبّ بعد الى إيجاد الترسانة المضادّة.
ما بعد الانتصار على الآفات القديمة الكبرى والتي لطالما أعاقت فرص طول العمر منذ آلاف السنين، ها الإنسانية اليوم تدخل مرحلة جديدة من تاريخها. مرحلة تلزمها بمصارعة أعداء جدد، وذلك ليس لتعمّر أطول فقط بل لتعمّر بصحّة مقبولة.
بعض المراجع:
- مشروع EVSI الأوروبي
- منظّمة الصحّة العالمية (WHO)
- CNRS (المجلس الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا)
- عنوان: طول عمر بدون صحّة..!
- منشور من طرف:
- تاريخ: 11:35 PM
- العلامات: